يعد علاج مشكلة الفقر وتخفيف حدتها داخل المجتمع مقياساً لنجاح أو فشل أي نظام اقتصادي، ولذلك تتسابق الأنظمة الاقتصادية في وضع تصورات وتقديم حلول عملية لهذه المشكلة التي تؤرق كل أمم الأرض، خاصة في هذا الوقت الذي يتضاعف فيه عدد الفقراء والبؤساء والجوعى في كل أرجاء العالم .ويشهد الاقتصاديون في العالم للنظام الاقتصادي الإسلامي بتفوقه في التعامل مع مشكلة الفقر وتقديم حلول مثالية لها، وكل ما هو مطلوب من المسلمين تفعيل هذه الحلول وتنفيذها على أرض الواقع حتى تختفي أو تخف حدة الفقر في بلادنا العربية والإسلامية .
حول مفهوم الفقر يقول د . محمد عبد الحليم عمر أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر: يدور مفهوم الفقر حول الحرمان من إشباع الحاجات الإنسانية اللازمة للمعيشة، فلقد جاء في الفقه الإسلامي أن الفقير هو: «من لا مال له ولا كسب يكفي متطلباته الضرورية» . . وهذا هو الفقر الاقتصادي الذي جاء تعريفه لدى البنك الدولي بأنه «عدم القدرة على الوصول إلى حد أدنى من مستوى المعيشة»، ويوجد اتجاه حديث يوسع دائرة مفهوم الفقر ليتعدى الجانب الاقتصادي إلى الجوانب الإنسانية، ففي تقرير حديث للبنك الدولي عن التنمية جاء فيه: «إن الفقر لا يشمل فقط انخفاض الدخل والاستهلاك بل يشمل أيضاً ضعف الإنجاز في مجالات التعليم والصحة والتغذية وغيرها من مجالات التنمية البشرية، ويشمل أيضاً انعدام الحيلة وعدم القدرة على التعبير والتعرض للمعاناة والخوف»، وهذه الجوانب هي نتيجة حتمية للفقر المادي أو الاقتصادي الذي ينقسم إلى نوعين هما:
الفقر العادي، وينظر إليه من زاوية الدخل الذي يحقق الحصول على أدنى مستوى من الحاجات المعيشية الضرورية للإنسان من طعام وشراب ومسكن وملبس، ويقدر عالمياً بمن يقل دخله في اليوم عن 2 دولار أمريكي .
والفقر المدقع وهو ينطبق على من لا يحصل سوى على الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية فقط، ويقدر عالمياً بمن يقل دخله عن 25 .1 دولار أمريكي للفرد في اليوم الواحد، ولقد سبق الفقه الإسلامي بهذه النظرة في التفرقة بين الفقير والمسكين .تداعيات خطيرة
وللفقر كما يقول د .عمر آثار سيئة في الفرد والمجتمع اقتصادياً واجتماعياً، مثل نقص الطلب الكلي على السلع والخدمات ما يؤدي إلى الركود، وظهور سلوكيات منحرفة لدى الفقراء والعاطلين تمثل خروجاً على القيم والأخلاق والدين مثل السرقة وأكل أموال الناس بالباطل وانتشار الجرائم الضارة بالمجتمع، وتدهور الوضع الصحي للفقراء وانتشار الأمية . والواقع المعاصر يدل على أن الفقر تحول من ظاهرة يمكن علاجها إلى أزمة خطيرة، فالأرقام التي صدرت منذ أعوام قليلة تؤكد أن عدد سكان العالم 440 .6 مليار نسمة منهم 6 .2 مليار نسمة تحت خط الفقر العادي (أقل من 2 دولار أمريكي للفرد في اليوم) وبنسبة حوالي 40% من السكان، أما من يعيشون فقراً مدقعاً (أقل من 25 .1 دولار للفرد في اليوم) فيبلغ عددهم 4 .2 مليار نسمة وبنسبة 22% من سكان العالم .
أما عن الفجوة بين الأغنياء والفقراء فهي متسعة إلى حد كبير، فأعلى دخل للفرد في العالم حوالي 65000 دولار في السنة بينما أقل دخل 560 دولاراً، ومن منظور آخر فإن 20% من دول العالم تستحوذ على 80% من الاقتصاد العالمي ولا يتبقى ل80% من دول العالم سوى 20%، وفي طرح ثالث فإن ثروة 3 من أغنى أغنياء العالم تبلغ ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة .
وتزداد مشكلة الفقر في العالم الإسلامي، فإذا كان عدد دول العالم الإسلامي 58 دولة يعيش فيها مليار ونصف المليار نسمة، فإن 26 دولة منها تصنف عالمياً بأنها دول ذات دخل منخفض أي فقيرة، وأن 871 مليون نسمة من السكان فقراء وأن 43% من الفقراء المدقعين في العالم كله يعيشون في 31 دولة إسلامية . . كما أن متوسط الدخل للفرد في العالم الإسلامي 2082 دولاراً في السنة بينما المتوسط العالمي 7439 دولاراً .
ويوضح أستاذ الاقتصاد الإسلامي بالأزهر أن البرنامج الإسلامي لعلاج الفقر متنوع ومتميز ويقوم على الأسس والمبادئ التالية:
أولاً: الفقر في نظر الإسلام شر والغنى خير، ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من الله تعالى الغنى فقال: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، وقرن في الاستعاذة بين الكفر والفقر فكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر) . فقال رجلان: ويعدلان؟! فقال رسول الله (نعم) .
ثانياً: توجد خصائص مميزة للمنهج الإسلامي في علاج الفقر، ومن أهمها الارتباط بالدين عقيدة وشريعة وأخلاقاً، فالزكاة من أركان الإسلام والكفارات ونفقة الأقارب من الحقوق الواجبة، والصدقات التطوعية من أعمال الخير التي يدعو الإسلام إليها ويثيب الله تعالى عليها، ومن هنا تظهر خاصية التعدد والتنوع في المنهج الإسلامي بين وسائل إلزامية ووسائل اختيارية .
ثالثاً: الآليات الإسلامية لعلاج الفقر متنوعة وتشمل الزكاة، ومقصودها الأساسي هو مكافحة الفقر، فبالنظر إلى مصارف الزكاة الثمانية المنصوص عليها في القرآن توجد ستة أصناف تستحق الزكاة بسبب الفقر، سواء كان فقراً دائماً مثل الفقراء والمساكين أو فقراً مؤقتاً مثل المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وابن السبيل، والزكاة ليست لقيمات تعطى للفقير لكي يسد جوعه وإنما هي مصدر لإغنائه وتحويله من حالة الفقر للغنى، لأن مقصودها كما عليه إجماع الفقهاء هو سد الخلة، وخلة الفقير فقره وسدها يكون بإغنائه، فمن كان فقيراً أو مسكيناً وقد تعود التجارة أعطى كفايته من رأس مال يكفيه ربحه غالباً، ومن له حرفة لا يجد آلتها أعطى ما يشتري به آلتها، وهكذا . . أما العاجز عن العمل فيمكن تقرير راتب شهري له أو اتباع أسلوب البطاقة الزكوية التموينية، وفكرتها ببساطة هي أن يتم الاتفاق مع بعض المزكين من التجار الذين يبيعون المواد الغذائية والمهنيين على أن يخرجوا زكواتهم دورياً في صورة كميات من السلع لعدد من الأسر الفقيرة بموجب بطاقة يسجل فيها ما يأخذه الفقير دورياً على مدار السنة .
دور الوقف
وإلى جانب فريضة الزكاة يأتي دور الوقف في علاج الفقر وهو من الصدقات التطوعية الجارية التي يستمر ثوابها للواقف ومنفعتها للموقوف عليهم، ولقد قام بدور كبير في الحضارة الإسلامية وما زال عطاؤه مستمراً، وبالنظر في أغراض الوقف نجد أنه شرع بالدرجة الأولى لمكافحة الفقر، سواء فقر الدخل بالوقف على الفقراء والمساكين أو فقر التنمية البشرية بالوقف على المدارس والمستشفيات وتوفير المياه وغيرها من المرافق العامة، ويمكن تنظيم ذلك في الوقت المعاصر من خلال إنشاء صناديق وقفية كل صندوق لغرض معين، ثم طرح صكوك وقفية للاكتتاب العام فيها بقيمة اسمية بسيطة، ولتكن عشرة دراهم أو ريالات مثلاً بحيث يشتري كل مسلم يريد المشاركة في الوقف من الصكوك حسب قدرته، ثم استخدام المال المجمع في علاج الفقر . وبالنسبة لعلاج فقر العجز يستثمر مال الوقف بصيغ استثمار شرعية ويصرف عائد الاستثمار في صورة دخل شهري للأسر والأفراد والفقراء، وبالنسبة للفقر البشري: يخصص العائد للإنفاق على علاج وتعليم الفقراء كما يمكن إنشاء صندوق وقفي لبناء المساجد والمساكن لسكن الفقراء والمستشفيات لعلاجهم وتوفير المياه النقية وإنشاء مشاريع الصرف الصحي وهكذا مما يسهم في التنمية البشرية وبالتالي علاج الفقر البشرى .
حق الرعاية
الفقيه الأزهري د .علي جمعة مفتي مصر السابق، عضو هيئة كبار العلماء يوضح أن الإسلام تعامل مع مشكلة الفقر بوسائل أخلاقية . . ويقول: سن الله سبحانه وتعالى في خلقه سنناً نظمت أمور الناس في جميع طرائق حياتهم، ومن هذه السنن أنه جعلهم متفاوتين من حيث القوة الجسدية والعقلية، وكان من أثر ذلك أن جعل منهم الغني والفقير، ولكنه تعالى لم يترك الفقير هملاً تزداد فاقته حتى يقضي عليه فقره، بل حرص الإسلام على حل مشكلة الفقر بطرق شتى، فحث على العمل للقادرين وبث في نفوسهم أنه تعالى إنما أنعم عليهم بنعمة القوة ليكفلوا أنفسهم ومن ينفقون عليهم ثم إخوانهم من غير القادرين، فأوجب سبحانه للضعفاء حق الرعاية من خلال نظام اقتصادي وأخلاقي واجتماعي متكامل أقامه الإسلام وسار عليه المسلمون منذ البعثة النبوية الشريفة فأثبت تميزه وكفايته بما لا يدع مجالاً للشك في أنه من لدن حكيم عليم .
وهذا النظام كما يقول د .جمعة يبدأ بالأخلاق، فلقد وضع الإسلام الأسس التي يقوم عليها المجتمع المبني على الأخلاق السوية والتقارب والتحاب والتعاون على الخير وفعل المعروف وما يزرعه ذلك في كل قوي فيرحم الضعيف، وفي كل غني فيعطف على الفقير، وفي كل قادر فيغيث ذا الحاجة والنظام الاقتصادي لعلاج مشكلة الفقر قائم على قواعد راسخة، ففيه من الواجبات على الأغنياء الزكاة والنفقة، وفيه مما ندب إليه الوقف والصدقة فضلاً عن الهبة والهدية وسائر التبرعات، ودعم التشريع الإسلامي هذا النظام بأن جعل أوجب العبادات على المسلم بعد الصلاة إخراج حق أخيه غير القادر، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» .
إطعام الطعام
وربط الله تعالى الإحسان إلى الفقراء بالكثير من العبادات، وكان من طرائق هذا الإحسان بل لعله أعظم طريق إطعام الطعام، سواء كان صدقة للفقير أو إطعاماً للأسير، قال تعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً»، وذلك باعتبار الطعام من الحقوق الإنسانية الضرورية التي يتكفل بها المجتمع بأسره .
ومن هنا ربط الإسلام الإطعام بأعياد المسلمين، وذلك في عيدي الفطر والأضحى، ففي عيد الفطر فرض الله على المسلمين أن يدفعوا زكاة الفطر للفقراء والمساكين طعمة لهم، وفي أيام عيد الأضحى شرع الله للحجاج أن ينحروا هديهم في فريضة الحج سواء على وجه الوجوب للمتمتع والقارن أو على الاستحباب للمفرد، وقد خص الله تعالى البائس الفقير في الإطعام من الهدي فقال: «فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير»، ثم إنه سبحانه شرع لمن لم يحج أضحية تشبها بالحجاج وشكراً لله تعالى على توفيقه للعمل في هذه الأيام الفاضلة . وشرع التشبه بالحجاج أيضاً في إطعام الفقراء من الأضحية، فالأضحية لا تطلب لذاتها فحسب، لكن للتوسعة أيضاً على الفقير وابتغاء التقوى ومحبة الخير لكل الناس . وبذلك أنعم الله تعالى على فقراء المسلمين في أقطار الأرض برزق حسن في أيام فرح، وعلى أغنيائهم بثواب من عنده وفضل .
إن توزيع الأضحية على الفقير يحمل في جوهره تكافلاً تفيد منه الجماعة مادياً وخلقياً، وذلك لأن الاهتمام بذوي الحاجة والبائسين في العيد خاصة ومشاركتهم فرحة العيد ومناسبته السعيدة يساعد على حب الفقراء للأغنياء وثقتهم بهم والتفافهم حولهم، وبذلك تزيد الأضحية من روابط التكافل الاجتماعي في المجتمع وتزيد من أواصر التآلف بين أفراده . ولا يقتصر الأمر على أيام العيد فحسب، بل إن اتخاذ الإطعام سنة في بقية العام والسعي في نشر هذه السنة وتنظيمها لإيصال الطعام إلى مستحقيه، ودعم القائمين على هذا العمل من المخلصين المحيطين علماً بالواقع المعاش والمناهج العلمية الحديثة، وتوسيع مفهوم الطعام ليشمل الدواء أيضاً باعتباره حاجة مهمة لكل إنسان كل ذلك مطلوب من كل قادر أنعم الله عليه بنعمة فأراد إيصالها إلى مستحقيها .