الكاتب: د. أحمد سمير
الصيام أو الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى غروب الشمس، دون تقييد للسعرات الحرارية أو فقدان كبير للوزن، يساعد على إصلاحالحمض النووي ورفع كفاءة المناعة، ويعزز القدرات المعرفية.
«طعامكم دواؤكم، وداؤكم في طعامكم»، مقولة ارتبطت بـ»أبُقراط» الملقب بـ»أبي الطب»، واتفق معها الطبيب العربي الشهير «ابن سينا»، وأيدتهارحلة العلم الممتدة عبر التاريخ البشري، والتي ربطت بين الغذاء والحالة الصحية للشخص، سواء من حيث جودتها أو إصابته بالأمراض.
وخلال السنوات الأخيرة تَبيَّن أن أقوال القدماء في هذا الصدد كانت بالفعل على قدر كبير من الدقة، فقد شهدت تقدمًا كبيرًا في فهمنا للعلاقةالشائكة بين التغذية والأمراض والأدوية؛ إذ أظهرت الأبحاث الحديثة بوضوح الدورَ العلاجي الذي يمكن أن تؤديه بعض التدخلات في نمط الحياة،وعلى رأسها نمط الغذاء. بالإضافة إلى ذلك ساعدت هذه الأبحاث على فهم ما يُعرف بـ»علم الأحياء المجهرية الغذائية»، الذي يهتم بدراسة الكائناتالحية الدقيقة التي تعيش في المواد الغذائية أو تعمل على تلويثها أو تسبب تلفها وصولًا إلى التسمم الغذائي.
ومن بين الأنظمة الغذائية، تحتل شعيرة الصوم -على اختلاف أشكالها وصورها- مكانةً بارزةً في العديد من الأديان، وعلى رأسها الأديان السماويةالتي تُجمع على فوائد الصوم الروحية، في حين تتباين وجهات النظر العلمية حول الفوائد الصحية له، وإن كانت تذهب في كثيرٍ منها إلى أنه يساعدعلى فقدان الوزن، وتقليل ضغط الدم، وتحسين مستوى الكوليسترول والجلوكوز في الدم.
ومن هنا تأتي أهمية الدراسة التي أجراها فريقٌ من الباحثين بكلية بايلور للطب بالولايات المتحدة لفهم تأثير «صوم المسلمين» -باعتباره أحد أنواعالصيام المتقطع- على صحة الإنسان، مشيرةً إلى أن الصيام من الفجر (الامتناع عن الطعام والشراب) إلى غروب الشمس يمكن أن يكون عاملًاوقائيًّا وعلاجًا مساعدًا في أمراض السرطان ومتلازمة التمثيل الغذائي.
افترض الباحثون، في الدراسة التي نشرتها دورية «جورنال أوف بروتيومكس» Journal of Proteomics، أن الصيام المتقطع لعدة أيام متتالية دونتحديد عدد السعرات التي يتناولها الشخص له تأثيرات إيجابية على صحة البشر.
صوم رمضان نموذجًا
اختار الباحثون نمط صيام المسلمين لشهر رمضان لقياس هذا التأثير؛ إذ عملوا على متابعة 14 شخصًا بصحة جيدة في أثناء امتناعهم تمامًا عنالطعام والشراب لمدة 30 يومًا متتابعة من الفجر وحتى الغروب. تعمَّد الباحثون عدم وضع أي محاذير بخصوص تناوُل الطعام أو تحديد للسعراتالحرارية في أثناء فترة الإفطار؛ إذ أُتيح للمشاركين الأكل بحرية وفق احتياجاتهم خلال هذا الوقت.
لمتابعة هؤلاء الأشخاص، سحب الباحثون عينات دم للمشاركين قبل بدء فترة الصيام، ومع نهاية الأسبوع الرابع من الصيام، وبعد نهاية شهر الصيامبأسبوع، ثم أجروا قياسًا لمستوى العديد من البروتينات في الدم باستخدام «تقنية الاستشراب السائل المزود بمقياس طيف الكتلة» (LC-MS)؛ وهي إحدى تقنيات الكيمياء التحليلية التي تُستخدم لتحديد العناصر المكونة لمادة أو جزيءٍ ما من خلال فصل مكوناتها، وتحديد تركيب هذهالمكونات بدقة وحساسية عالية. وأظهرت النتائج زيادة العديد من البروتينات التي تساعد على تنظيم عمليات التمثيل الغذائي وإصلاح الحمض النوويوالمناعة والقدرات المعرفية.
فوائد متنوعة
تقول أيس ليلي مينديكأوجلو، الأستاذ المشارك في الطب والجراحة في كلية بايلور للطب، والباحث الرئيسي في الدراسة: «إن الدراسات التي سبقإجراؤها على مجموعة من فئران التجارب أظهرت أن التغذية المقيدة بوقت يحدد ساعات الامتناع عن الطعام والشراب، تساعد على ضبط اضطرابإيقاع الساعة البيولوجية، الذي قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان ومتلازمة التمثيل الغذائي».
تضيف «مينديكأوجلو» في تصريحات لـ»للعلم»: حاولنا في دراستنا معرفة ما إذا كانت هناك تأثيرات مماثلة للصوم بالنسبة للبشر أم لا، ووجدنا أنالصيام المتقطع لعدة أيام متتالية دون تقييد السعرات الحرارية في البشر من شأنه أن يحفز البروتينات المضادة للسرطان والبروتينات المنظمةللجلوكوز واستقلاب الدهون والبروتينات المقاوِمة للسمنة والسكري، والبروتينات المرتبطة بإصلاح الحمض النووي وتقوية جهاز المناعة، إضافةً إلىالمساعدة في علاج بعض الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية مثل ألزهايمر، والأهم من ذلك أن هذه النتائج حدثت في غياب أي تقييد للسعراتالحرارية أو فقدان كبير للوزن.
من جهته، يقول إبراهيم عبد الغفار -مدرس الكيمياء الحيوية بكلية الطب بجامعة الأزهر، وغير المشارك في الدراسة- لـ»للعلم»: من النتائج الإيجابيةالتي أظهرتها الدراسة أن الباحثين لم يجدوا فروقًا ذات جدوى للصيام فيما يتعلق بمستوى بعض الاختبارات الروتينية في الدم، ولا في»الميكروبيوم» (محتوى القولون من الكائنات الدقيقة، الذي يمكن من خلاله التنبؤ بمشكلات صحية عديدة).
نتائج مماثلة
تتفق نتائج الدراسة الجديدة مع ورقة علمية سابقة تناولت فوائد صوم رمضان، مشيرةً إلى أن «الصيام يساعد مَن يعانون من الضغط النبضيالمرتفع؛ إذ يؤدي إلى خفض ارتفاع ضغط الدم بنسبة 17% تقريبًا، ومستوى الدهون عالية الكثافة (النوع الجيد من الدهون) بنسبة 33%، وانخفاضمستوى الدهون منخفضة الكثافة (النوع غير المرغوب من الدهون) بنسبة 17%.
كما كشفت دراسة مرجعية (وهي نوع من الدراسات يقوم بتجميع البيانات من دراسات مختلفة وتقييمها من أجل الخروج باستنتاجات تصلح للتطبيق)أن صيام رمضان يحسِّن مستوى الدهون عالية الكثافة