الكاتب ـ محمود يوسف خضر
أنتج خزَّافو العصر الفاطمي أفخر أنواع الخزف وأبدع زخارفه، وكانت الفسطاط أهم مراكز صناعة النوع ذي البريق المعدني منه في ذلك العصر. وفي العصر الفاطمي ظهرت توقيعات الخزَّافين على
منتجاتهم، وإن كانت هناك قِطَعٌ كثيرة تُركت بدون توقيع. وفي هذا الإطار عُرف مسلم ابن الدهان وإبراهيم وسعد بمصر ولطفي وعلي البيطار وهيثم بن إبراهيم وجعفر ومترف أخو مسلم وأحمد الصيَّاد وغيرهم، ممَّا يدل على نشاط صناعة الخزف ورواجها. وكان لكل فنَّان أسلوبه في رسم الأشخاص والزخارف وشكل الأواني التي ينتجها. ولاشك في أنَّ الخزف الفاطمي هو استمرار للخزف الذي أنتج في العصر الطولوني متّبعًا التقاليد القبطية، والذي استمدّ بعض زخارفه من الأسلوب الساساني والصيني.
وقد تطوَّرت زخارف الخزف في العصر الفاطمي حتى أصبحت ذات طابع خاص يعبِّر عن صميم الحياة الاجتماعية في مصر. وكانت الزخارف التي تُرى على الخزف اقتباساً من الزخارف النباتية والحيوانية ورسوم الطيور التي ظهرت على الخشب والعاج والمعادن في هذا العصر، وهكذا انتشرت رسوم الحيوانات الممسكة في أفواهها فروعًا نباتية. أما الأواني التي ضمَّت رسوم شخوص، فقد كانت مساحة الزخرفة فيها تشمل رسم شخص واحد، يحيط به خطّ يفصله عن الزخارف التي تحيط به. وتميِّز رسوم الشخوص الوجوه القمرية المستديرة والعيون اللوزية، ويضع الرجال العمائم فوق رؤوسهم فيما تعتمر النساء العصائب أو التيجان. أما الملابس فكانت فضفاضة، وقد حليت ملابس النساء بزخارف نباتية ومطرَّزات على الأكمام والأكتاف.
تعطينا هذه الرسوم فكرة عن ثياب ذلك العصر وزخارف المنسوجات وتطريزاتها. وفي متحف الفن الإسلامي بالقاهرة صحنان يمثِّلان ذلك النوع من الزخارف الآدمية، وعلى أحدهما، المسجل بالرقم (14923). موضوع تصويري زخرفي يمثل سيِّدة تعزف على آلة موسيقية وترية تشبه القيثارة، رقيقة الوجه تتدلى على جانبيه خصلتان من الشعر، تعتمر غطاءً كبيراً مزخرفاً بشرائط، وترتدي ثوبًا يغطي الجسد تقريبًا، واسع الأكمام مزين بأشرطة وأشكال صليبية… أما زخارف طيّات الثوب عند الأرجل فقد تميَّزت بها الملابس الفاطمية. وعلى يسار السيدة رسم إبريق دقيق التصميم. تحيط به أوراق نباتية محوَّرة ومناطق زخرفية غير منتظمة تملؤها زخارف دقيقة حلزونية، وحملت حافة الصحن زخارف مثلثة مسنَّنة تشبه أسنان المنشار. وعلى الصحن الثاني، وهو ذو بريق معدني أيضًا، رسم أميرة جالسة وفي كلتا يديها كأس، وعلى رأسها تاج، ترتدي ثوباً فضفاضاً مزخرفاً بتفريعات نباتية سيقانها ذات عقود، دائرية حلزونية تنتهي كل منها في وسطها بورقة نباتية، والأكمام مطرَّزة. ويفصل الرسم عن الزخرفة خطّ يحوي مناطق بها خطوط حلزونية منقَّطة في وسطها، وقد زيّنت حافة الصحن بمناطق لوزية، يحيط بكل واحدة منها قوس.
وعند نهاية الضفيرة فوق ذراع الأيسر لرسم الأميرة وقَّع صانع الصحن اسمه..>جعفر<. أما في رسوم الحيوان فقد وُجد بعضها يحتوي على أجنحة، ومن المحتمل أن يكون ذلك طرازًا ساسانيًا، أو ينتسب إلى عقيدة دينية.
لقد ذكر ابن إياس >أن المنجِّمين نصحوا المعزّ لدين اللَّه بالاختفاء في سرداب تحت الأرض، فاختفى المعزّ ثلاثة شهور. ولمَّا طالت غيبته على جنده ظنُّوا أنَّه رُفع إلى السماء فكان الفارس من عسكره إذا نظر عالياً إلى الغمام ينزل عن فرسه ويقول: >السلام عليك يا أمير المؤمنين<. وقد بقوا على ذلك الحال حتى ظهر المعز من السرداب وجلس على سرير ملكه. وأظن أن رسوم الحيوانات الخرافية والخيول المجنّحة قد عبَّرت عن هذه الفكرة، فإذا عرفنا أيضًا أن معظم الفُرْس وقتذاك كانوا من السنَّة، وأنهم هم أنفسهم قد أقلعوا عن استخدام الأجنحة الساسانية الملكية في زخارفهم، فإن الرأي يميل إلى فكرة أن الأجنحة تعبِّر عن عقيدة مذهبية.
في متحف الفن الإسلامي بمصر طبق من الخزف، مسجل بالرقم (14467)، مزخرف فوق الطلاء الزجاجي بأسلوب البريق المعدني، عليه طائران خرافيان كل منهما برأس آدمي. البدنان متدابران والرأسان متقابلان، بينهما شجرة الحياة. وقد استمد الموضوع الزخرفي بالكامل من أساطير وفنون شرق العالم الإسلامي القديمة. وتحيط بالطائرين مناطق زخرفية من دوائر غير منتظمة، بداخل كل منها دائرة صغيرة، وهو أسلوب زخرفي ظهر على الخزف الفاطمي المبكر تقليدًا للخزف في العصر العباسي. وينتمي هذا الطبق إلى إنتاج الخزاف الفاطمي المشهور أبو القاسم >مسلم<، بن الدهان الذي عاش وأنتج في الفسطاط في عصر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (1021-969)م. وكانت لهذا الخزاف ، مدرسة في في الزخرفة بأسلوب البريق، انتمى إليها وقلد أساليبها العديد من الخزافين الفاطميين، منهم شقيقه >مترف<، و> أحمد الصياد <وابنه >علي قور< و>الطبيب<، و>أبو الفرج< و>جعفر البصري <وغيرهم.
كما يوجد بالمتحف طبق من الخزف، مسجل بالرقم (14933)، له حافة مفصَّصة بزخارف مرسومة بالبريق المعدني على الطلاء الزجاجي. وقوام الزخرفة الرئيسة رسم حيوان خرافي مجنح، مستوحى من الأساطير الساسانية والهندية القديمة، ضخم البدن ويتسم بالجمود الذي تميَّزت به منتجات >مسلم< المبكرة ومدرسته. كما أن تفاصيل البدن محوَّرة، وربما قصد الخزَّاف ذلك، أو أنه عبَّر عن هذا التحوير بإمكاناته الفنية المحدودة في إنتاجه المبكر، حيث نرى رسوم الحيوان في المراحل التالية من إنتاج >مسلم< ومدرسته قد تخلَّصت من هذا الجمود واكتسبت قدرًا كبيرًا من الليونة والقرب من الطبيعة.
تملأ المساحات المحيطة ببدن الحيوان الخرافي مناطق غير منتظمة من دوائر، بداخل كل منها دائرة صغيرة، وهي الزخرفة المعروفة باسم >عين الديك<، التي استخدمت في الصناعات العباسية والطولونية. واختفت هذه المناطق من إنتاج >مسلم< ومدرسته في مراحله التالية المتطورة. وفي المساحات الخالية من المناطق الزخرفية حول بدن الحيوان، رسم الخزَّافُ أوراقًا نباتية محوَّرة كان من شأنها أن تحقق التوازن الزخرفي والوحدة للموضوع . ويتميَّز هذا الطبق عن غيره، من معظم أطباق الخزف الفاطمية المزخرفة بأسلوب البريق، بحافته المفصَّصة التي أضفت عليه قدرًا من الخصوصية والتميُّز. وقد رسم الخزَّاف في مناطق متفرقة من الحافة أنصاف دوائر بالبريق البني الذهبي.
يضم متحف الفن الإسلامي سلطانية صغيرة من الخزف، مسجلة بالرقم (14402)، مزخرفة بالبريق المعدني فوق الطلاء الزجاجي الشفاف باللون البنِّي الذهبي. وهذا الموضوع جديد ومبتكر في زخرفة البريق المعدني الفاطمي. ويبدو أن الطبق من الإنتاج الفاطمي المبكِّر، في أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن الحادي عشر، حيث نرى تأثير الفنون الإيرانية بوضوح. وقد لجأ الخزَّاف إلى الرمزية في التعبير عن حبّ ملكي، تمثِّله حمامتان في وسط الإناء، منقاراهما متماسان، وفوق رأس كل منهما حلية تشبه التاج. ولعلّ الطائرين من تلك التي عرفت في الفن الإيراني بـ >طيور العشق<، الجبلية المعروفة في إيران.. وفوق الحمامتين إناء كأسي الشكل يشبه المشكاة، بدنه مزخرف بدوائر بيضاء، وعلى الجانبين طائران بدناهما محوران والذنبان عريضان، ويتدلى من فم كل منهما فرع ينتهي بورقة نباتية محوَّرة، على رأس الطائر الأيسر حلية تشبه التاج منفَّذة بالأسلوب المألوف في الفن الإيراني.. على ظهر كل من الطائرين ورقة نباتية محوَّرة.. وعلى أسفل جانبي السلطانية ورقتان نباتيتان محوَّرتان، تحتهما ورقة خماسية، وفي المساحات الخالية بين الطيور والأوراق النباتية والإناء الكأسي، تتناثر أوراق نباتية صغيرة محوَّرة.
كما يوجد بالمتحف طبق من الخزف، مسجل بالرقم (13478)، نفِّذت زخارفه بالبريق المعدني فوق طلاء زجاجي زبدي اللون، حيث سيدة في جلسة أمامية، الذراعان مرفوعان قليلاً وفي اليدين كأسان مزخرفتان. تعتمر غطاء يشبه التاج، وقد أدارت بوجهها قليلاً نحو ذراعها الأيمن. الوجه دقيق والحاجبان متصلان على شكل قوسين متلامسين، و الشعرالخفيف ينسدل على الأكتاف. الثوب فضفاض بأكمام واسعة، مغطى بزخارف من أوراق نباتية كبيرة مسنَّنة ومحوَّرة داخل دوائر حلزونية. أما الأرضية المحيطة برسم المرأة فقوامها مناطق غير منتظمة، تتألف من دوائر من النوع المعروف باسم >عين الديك< المأخوذ من الزخارف العباسية والطولونية. فيما حافة الطبق مزخرفة بأنصاف دوائر >فستونات< متتابعة ومألوفة في منتجات >مسلم بن الدهان< ومدرسته وتلاميذه. وفوق اليد اليسرى بجوار الكأس نرى توقيع الخزَّاف >جعفر< مكتوبًا بخط بسيط. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن >جعفر< هذا عمل في وقت واحد مع الخزَّاف >مسلم بن الدهان< ، إذ وُجد توقيعا الإثنين على جزء من طبق من الخزف إلى جانب بعضهما، مما يدل على أنهما عملا معًا في وقت معاصر. ويظهر توقيع >جعفر< على طبق خزف آخر باسم >جعفر البصري<.
ويوجد في المتحف أيضًا طبق من الخزف، مسجل بالرقم (7900)، مشغول بأسلوب البريق المعدني باللون الزيتوني فوق طلاء زجاجي أبيض. يمثِّل مركباً كبيراً بأربعة عشر مجدافًا، ويظهر الخطاف أو >الهلب< عند مقدمة المركب ومؤخرته. والشراع على شكل مثلث، وهو الشراع العربي الأصيل، تغطيه بالكامل زخارف معيَّّنة الشكل. ويظهر صاريان في المقدمة والمؤخرة على كل منهما ثلاث رايات مثلثة تبين اتجاه الريح، وبالتالي اتجاه سريان المركب. ولم ينس الخزَّافُ تعبئة الفراغ بين الصاري والشراع بزخرفة من فروع نباتية محورة. وتظهر أسفل المركب ثلاث سمكات تتجه يسارًا ، وقد قصد الخزَّاف ذلك لتعطي إيحاءً طبيعيًا بالإبحار. تزين حافة الطبق أنصاف دوائر، وعلى ظهره أربع مجموعات من دوائر، كل اثنتين منها متّحدتان في المركز، وتضم الدائرة الداخلية منها كتابة شبه كوفية. كما يوجد بالمتحف طبق عميق من الخزف جدرانه منفرجه إلى الخارج، مسجل بالرقم (14930)، مزخرف بطلاء زجاجي سمني اللون مرسوم عليه بالبريق المعدني زيتوني اللون، وموضوع الزخرفة دائرة في وسط القاع بداخلها رسم حيوان خرافي يسير نحو اليسار، له رأس نسر وجسم أسد تظهر فيه بعض التفاصيل التشريحية. الجناحان يخرجان من الأرجل الأمامية في شكل لوزي مع انحناء الطرف العلوي قليلاً إلى الأمام وانتهاء الطرف بشكل ورقة ثلاثية محورة، ويخرج من الظهر الحيوان، الذي يمسك في فمه بورقة نباتية محوَّرة، فرع نباتي محوَّر، وهو أسلوب مستمد من رسوم الطيور في الفن الساساني. وحول الدائرة المركزية أربع جامات لوزية في وضع متعامد، بداخل كل جامة ورقة نباتية كبيرة محوَّرة. وتملأ الفراغات بين الجامات رسوم نباتية محوَّرة بأوراق تشبه ما حملته الزخارف الطولونية.
تلعب الزخارف النباتية دورًا رئيساً مع رسم الحيوان المجنح في زخرفة هذا الطبق، وقد وضع الخزَّاف توقيعه علىه بعبارة: >عمل مسلم بن الدهان< بخط بسيط تحت إطار إحدى الجامات. ويظهر التوقيع مقلوبًا أمام مقدمة الحيوان. ويعتبر هذا الطبق، بشكله وزخارفه ولون طلائه وبريقه، مثالاً جيدًا للإنتاج البكّر للخزَّاف >مسلم< في عصر الحاكم بأمر الله 1021-996م. ويعتبر >مسلم< رائدًا لمجموعة من خزَّافي العصر الفاطمي المبكر، الذين عاشوا وأنتجوا في الفسطاط. فقد أمدَّتنا حفائر الفسطاط بقطع عديدة تحمل توقيعه، ونجد في أوانيه أطباقًا عميقة ذات جدران مائلة، وأخرى مقعرة تنتهي من أعلاها بحافة مسطحة بارزة إلى الخارج، وبعضها قليل العمق قصير الجدران يميل إلى التسطح. وقد تأثرت زخارفه بأسلوب العصر الطولوني وخزف سامرَّاء.
تمتاز أواني >مسلم< بأن قاعدتها قليلة الارتفاع، وبأن الطلاء الزجاجي يغطي سطح الإناء كله بما فيه القاعدة. ويغلب على منتجاته استعمال نوع من الطلاء المعدني ذهبي اللون بدرجة من الاخضرار. إلى ذلك يوجد المتحف الإسلامي طبق من الخزف، مسجل برقم (14931)، مصنوع بأسلوب البريق المعدني على طلاء زجاجي. وقوام هذه الزخرفة دائرة كبيرة في قاع الطبق، بداخلها نجمة سداسية تضم عصفورًا في فمه فرع نباتي، وفق الأسلوب الساساني المألوف الذي يظهر كثيرًا في منتجات >مسلم< ، وحول العصفور زخارف نباتية محورة. أما المناطق المثلثة المحصورة بين رؤوس النجمة فتحتلها مناطق مثلثة من دوائر غير منتظمة من النوع المعروف باسم >عين الديك< المأخوذة عن الزخارف العباسية والطولونية.
ونلاحظ هنا أن هذه الزخرفة أخذت تتضاءل تمهيدًا لاختفائها في المراحل المتقدمة من إنتاج >مسلم<. أما العنصر الرئيس في الزخرفة على الطبق فهو شريط عريض من كتابة بالخط الكوفي المورَّق يلتف حول الدائرة المركزية، وهي منفذة على أرضية من الزخرفة النباتية المحوّرة من فروع ملتفة وأوراق ثلاثية. وتقرأ الكتابة: >بركة كاملة ونعمة شاملة له<، وهي من العبارات الدعائية الشائعة التي ظهرت على منتجات العصر الفاطمي. وقد استخدم مسلم الخط الكوفي في زخرفة الكثير من أوانيه وأطباقه من الداخل، وكان يجتهد في إكساب الحيوانات والطيور قدرًا كبيرًا من المرونة والحيوية حتى يخلِّصها من مسحة الجمود التي ميزت إنتاجه المبكر.
وقد تطورت رسوم الأشخاص والحيوان، من شخص وحيوان مفرد، إلى واحد من الموضوعات الاجتماعية المستمدَّة من المحفورات الخشبية التي تمثِّل حياة اللّهو والطرب والصيد والراقصين والجمال والطيور والحيوانات المفترسة. ومن أجمل الموضوعات على الخزف رسم اللّعبة الشعبية (التحطيب) التي ما زال الفلاحون يمارسونها حتى اليوم في قرى الدلتا والصعيد. وتُرى في الرسم دقَّة التصوير وصحّة أوضاع اللاعبين، وقد أبرزت أسلوب الحز تفاصيل الملابس. وحلّيت خلفية الرسم بالتوريقات والتفريعات النباتية، وزيّنت حواف الصحون بخطوط متوازية تنتهي رؤوسها بنقاط كرأس الدبُّوس.كما يوجد صحن آخر عليه رسم يعرض مشهدًا لمناقرة الديكة، حيث تبدو دقَّة التصوير ووضوح تعبير الوجوه بين الشيخ وديكه المتحفّز على الأرض، والشاب وديكه المتحدِّي الواقف على فخذه، وكلاهما جالس القرفصاء وحولهما تفريعات نباتية(83). وهذا الطبق، المسجل بالرقم (14516)، مقعَّر قليلاً، وحوافه منخفضة مفصَّصة، والموضوع التصويري مرسوم بالبريق المعدني على طلاء زجاجي سمني اللون. رأسا الرجلين. عاريان، وهما يرتديان ملابس تظهر فيها الثنايا والطيات الناتجة عن الحركة بأسلوب يكاد يكون طبيعيًا وتتطاير من فوق أكتافهما أطراف عباءات خفيفة عليها أشرطة من الطراز كانت مألوفة في ملابس علية القوم. أما المساحات المحيطة بالرجلين فقد ملأها الخزاف بوحدات محوَّرة من أوراق نباتية تتفاوت في الحجم. ويحيط بالموضوع التصويري على الحافة شريط من زخرفة خطية هندسية تقطعها أوراق نباتية محوَّرة. ونلاحظ أن أجزاء عديدة من الطبق قد تعرضت للترميم والتجديد، وأعيد تلوين بعض المناطق ورسم بعض الأجزاء الناقصة. ويمثل الطبق مرحلة تالية من إنتاج >مسلم< ومدرسته، إذ بدأ يتخلص من تأثير الأساليب الزخرفية العباسية والطولونية. ومن الملاحظ أن >مسلم< استخدم موضوعات مستمدة من مشاهد الحياة اليومية، مثل هذا الطبق، إلى جانب مناظر الصيد ومجالس الغناء والرقص والشراب وحياة الكادحين.
كذلك يوجد بالمتحف طبق من الخزف مسجل بالرقم (14926)، مزخرف بطلاء البريق المعدني فوق الطلاء الزجاجي السمني اللون. والموضوع الأساسي للزخرفة على قاع الطبق يمثل رسم غزال يعدو في رشاقة وحركة طبيعية نحو اليسار، وقد ظهرت معظم التفاصيل التشريحية لبدن الحيوان وهو في حالة العدو، مما يدل على نضوج صنعة الخزَّاف وتمكُّنه من رسم الحيوان في حرية وبساطة. وكان من الموضوعات الزخرفية المفضلة لدى >مسلم< رسم موضوع رئيسي لحيوان أو طائر يتوسط قاع الإناء وبسط باقي العناصر والتفاصيل الزخرفية في توازن جميل.
أما المساحات أو الأرضية التي تحيط برسم الغزال فقد ملأها بزخارف نباتية محورة رقيقة ومتماثلة في تناسق فني قوامه فروع ملتوية تنتهي بأوراق نباتية مفصَّصة ومدبَّبة. وقد زيَّن حافة الطبق بجامات زخرفية خطية هندسية مستطيلة، تقطعها مناطق ثلاث من زخرفة خطية مجرَّدة. وهنا نلاحظ أن الخزاف في مرحلة إنتاجه المتطورة قد تخلص تمامًا من الأساليب الزخرفية القديمة التي ظلت تتحكم في إنتاجه المبكر، كما أن التقنية الصناعية بدت ناضجة متطورة تتجه إلى تحقيق أسلوب جديد. وكان >مسلم< يضع توقيعه في بداية إنتاجه باسم >مسلم بن الدهان<،، وذلك قبل أن يحقق شهرته ذائعة الصيت، ثم وضع توقيعه باسم >أبو القسم مسلم <، والمقصود به >أبو القاسم مسلم<. وبعد أن ذاع صيته وحقق شهرته اكتفى بتوقيع >مسلم< فقط، إلى جانب قطع كثيرة لم يضع توقيعه عليها.
وهناك بعض الأواني كان يترك لصبيانه وضع اسمائهم عليها. وكانت زخارف الفنان >سعد< المشهور، الذي عاش وأنتج في فترة متأخرة من القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر الميلادي، ترسم بالبريق المعدني ذي اللّون الأحمر النحاسي والذهبي والأخضر والبنفسجي القاتم والأصفر. وقد استخدم الزخرفة بالحزّ تحت الطلاء في البطانة البيضاء. وتخلَّلت زخارفه خطوط محزوزة ونقاط لونها أزرق كوبالتي، وفوق الطلاء الزجاجي رُسمت الزينة بالبريق المعدني. وفي متحف الفن الإسلامي إناء صغير من الخزف مسجل بالرقم (15575)، مزخرف فوق الطلاء الزجاجي بأسلوب البريق المعدني. وتمثّل الزخرفة طائرين باللون الأسود على الطلاء الزجاجي بلونه الأخضر الزيتوني. ويبدو من أسلوب الصناعة والزخرفة تطوُّرٌ ونضوجٌ واضحان. وقد تميّز إنتاج >سعد< بعدم تزجيج قواعد الأواني. وفي هذا العصر ظهرت في مصر جميع فنون الخزف، فقد كانت تلك البلاد تنتج الخزف بالزخارف المحفورة على بدن الإناء تحت الطلاء الزجاجي، وكان هذا الطلاء ذا لون واحد، وهو تقليد للخزف الصيني المستورد في عهد أسرة سونج.
طيور العشق على سلطانية خزف بالبريق المعدني وظلَّت صناعة هذا النوع من الخزف المقلّد للبورسلين الصيني مستخدمًا في مصر حتى القرن الثالث عشر، وكانت الزخارف ترسم بالبريق المعدني الذي لم يكن يعرفه الصينيون. وصنع فنانو العصر الفاطمي الخزف بعجينته البيضاء المتماسكة، كما توصَّلوا إلى الخزف ذي الزخارف المخرَّمة المغطَّاة بالبريق المعدني، والتي كانت تسمح للضوء بأن ينفذ من خلف الإناء، كما ذكر ذلك الرحَّالة الفارسي ناصري خسرو، الذي قدِم من إيران مارّاً بالعراق، وقال إنه لم ير مثله، ممَّا يدلّ على أن الخزف ذا الزخارف المخرّمة لم يكن معروفًا ولم يكن ينتج في العراق أو إيران في العصر الفاطمي.
وقد وُجدت قطع من الخزف الأبيض ذي الزخارف المخرّمة وعليها توقيع >سعد< وأخرى عليها تواقيع خزَّافين آخرين. وفي نهاية القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، بدأت رسوم الحيوان والطير تأخذ شكلاً أكثر حيوية ونشاطًا عمَّا كان من قبل، كما تحسَّنت أشكال القدور والأواني والصحون والصحاف والأكواب والمزهريات. وقد رُوعيت النسب الفنِّية عند تشكيل هذه الأواني وأصبحت للقدور قاعدة عالية تقف عليها.
ومن الجليّ أن هذا التطوُّر في أشكال الأواني قد صاحب محاولات الخزَّافين لتقليد الخزف الصيني. وكان الفخَّار العادي الشعبي الاستعمال منتشرًا، ولم يخْلُ من الزخارف والتزويق. وحتى يومنا هذا تزخرف الأواني الفخَّارية بالخدش على العجينة قبل الحرق داخل الفرن. وهذه الخدوش ترسم خطوطًا متوازية بإضافة عجينة تشكِّل زخارف وتزويقات على جسم الفخَّار الذي كان بعضه يدهن بألوان أو بطلاء قبل الحرق. ومن الزخارف الطريفة في القلل وبعض الجرار والأباريق المخصّصة لتبريد الماء، أن الخزَّافين زيَّنوامصافيها بزخارف متنوّعة.
وفي متحف الفن الإسلامي مصاف وقلل وأباريق متنوّعة الزخارف، أطرفها ذلك الشباك المزخرف برسم سيدة ترقص وعلى يديها كوبان تحافظ عليهما متوازنين أثناء الرقص، وقد ارتدت الراقصة رداء بسيطًا يكشف معظم جسدها. وتصوير هذه الراقصة بهذا الأسلوب نـادر فـي الفن الإسلامي، ويذكّرنا بقطعة من الخزف محفوظة بالمتحف، عليها رسم راقصة في ثياب تقرب من ثياب البحر، وهي من القطع النادرة في الفن الإسلامي(84).وبسقوط الفاطميين ينتهي العصر الذهبي للخزف البديع دقيق الصنع، ليظهر في إيران متتبّعًا خطى الفاطميين، وهناك أسبغ عليه الخزافون من زخارفهم وتعبيراتهم الجميلة في ظلّ سلاطين السلاجقة ما جعله من أروع التحف الإسلامية. وكانت الفسطاط هي مركز صناعة الخزف ذي البريق المعدني طوال العصر الفاطمي، ثم توقف إنتاج هذا النوع من الخزف فيها بعد احتراقها نهائيًا العام 1168م، قبل ثلاث سنوات من سقوط الدولة الفاطمية. وإلى الآن لم يتوصل الباحثون إلى معرفة أسباب تدهور صناعة الخزف عقب العصر الفاطمي، إلا أن بعضهم يرجع اختفاء صناعة الخزف ذي البريق المعدني إلى الحريق الذي أصاب حي الخزافين في الفسطاط العام (85)1169.