الكتابة – منى حوا
لا يغيب ذكر الفرق الكروية الإسبانية عن أي مقهى شباب في المنطقة العربية، إسبانيا التي كانت ذات أمس إمبراطورية عظمى تفرد أجنحة نسرها على امتداد قارات العالم، تغزوهم اليوم من جديد بجناحين آخرين عمادهم كرة القدم. في الولاء والانتماء والشغف القاتل والجنون المستعر والحماس الشهيّ، قد نختلف هنا.. لكن مدريد وبرشلونة غيّروا بالفعل قِبلة أفئدة الشعوب.
لم أزر برشلونة بعد، في الحقيقة لم تغرني تلك المدينة مطلقًا ربما أحدثكم عن ذلك لاحقا. أما مدريد فقد كانت أول وجهة لي في رحلتي «الأندلسية»، أمضيت فيها أربعة أيام انتقلت منها لمعالم مجاورة، وفِي اليوم الخامس انطلقت إلى غرناطة. في العادة لا يمضي السائح هنا بغرض الآثار الغابرة أكثر من يومين على أقصى تقدير، والأمر مفهوم حدّ اعتقادي.
«مجريط» كما أسماها العرب تأسست من لدن أمير قُرطبي طموح يدعى محمد الأول «852-886″، كان عمره ثلاثين عاما حين تقلّد الحكم، وفي الرابعة والثلاثين حكم الإمارة وأخذ يعكف على حركة تمدن عمراني واسعة، نشر القلاع والحصون وكانت مدينتنا الفتيّة أحدها، لتتحول بعد ذلك إلى واحدة من أهم حصون الأندلس.
«مجريط» كلمة اختلطت من لغتين العربية واللاتينية «مجرى» وهو عربي يشير لجريان المياه، والثاني لاتيني وهو «إيتو» ويعني الكثرة أو الوفرة لتدفق المياه من حولها. هي مجريط إذا التي أصبحت تُعرف اليوم بمدريد. تلك إحدى الروايات التي تناولت التسمية، عن نفسي أخذت بها دون البقية.
بنى مدريد أقوام صاموا رمضان وتكلّموا العربية طوال ستة قرون، ثم اختفى حضورهم من الذاكرة الجمعية، قلة من المهتمين يعطون لهذه المدينة قيمتها الأندلسيّة، وقلّة أيضا من المسافرين إلى إسبانيا يعرفون الطريق لإعادة اللقاء بين إرثها الذهبي وواقعها الغريب عنها.
إذا أردت أن تزر مدريد الأندلس فأنت أمام تحد كبير ستمتحن فيه «الخيال»، قليّ بالله عليك كيف ستزر مدينة بنيت بالأصل على أساس حربي عسكري حدودي، مدينة هندستها وظيفية! ثم إذ بالأقدار تقودها لتكون عاصمة لإمبراطورية عظمى؟ لم ترقني العواصم يومًا، لكن في مدريد شجن قتّال..
مدريد هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي ما عرفت مجالا سكانيا قبل العرب، هذا يعني أنها لم تسكن من قبل تأسيس المسلمين مع تتبع تطورها الحضري، ومع ذلك تكاد لا تجد من ماضيها الإسلامي ملامح بارزة تعكس هذه الحقيقة، موقع مدريد الجغرافي ودورها التاريخي أخذ تدريجيا بمحو جلّ الآثار المنسية في الحقبة الأندلسية والمدجنة خلا القليل والقليل جدًا.
كيف تحولت إذًا تلك المدينة الأندلسية الصغيرة كحصن عسكري لتكون اليوم عاصمة لإسبانيا، ولتكون من بعد ذلك نقطة إنطلاق لإمبراطورية توسعية عظمى؟ أتساءل بحسرة العربي المعتادة.. كيف أصبحت تلك المدينة الحافلة بالذاكرة الأندلسية بعد مرور سبعة قرون على رحيل آخر حكامها، كيف غدت من أوآخر العواصم الأوروبية التي بني فيها مسجدا يدُشِّن مسجد مدريد الأول سنة 1988 أي بعد ستين سنة من مسجد لندن ومسجد باريس أو برلين، ثلاثين سنة بعد مسجد لاهاي، وعشر سنوات بعد فيينا وأوسلو ودوبلين، وفِي نفس الوقت مع لشبونة!
كل هذا كان يجول في خاطري وأنا أهبط في مدرجات مطار باراخاس الدولي، وصلت الظهيرة بفؤاد مشغول متوجسّ قلق، رحلتي الطويلة التي استغرقت أكثر من سبع ساعات لم تمنعني من إكمال طريقي مباشرة إلى أعظم صروح إسبانيا العظمى في أطراف المدينة، خمسون كيلومترًا من مدرجات المطار هي المسافة التي تفصلني عن «الأسكوريال» كعبة الإمبراطورية الإسبانية ذات أمس.
توجهت إلى ‘البلاط الملكي إذا فور وصولي. للموقع رهبة مختلفة، فهو الأهم على الإطلاق في زمانه، الاسكوريال كلمة إسبانية تعني «منجم الحديد»، وسبب التسمية يعود للمكانة التي يتربّع فوقها البناء المهيب، بين جبال الراما المدهشة، والغابات الكثيفة، حيث احتفى فيليب الثاني بأسطورته الملكية التي بُنيت فوق أكبر مناجم الحديد على الإطلاق، في الحقيقة إن هذا البلاط منجم بالفعل بسبب مكتبته الغنية بالمخطوطات العربية، والتي لعبت دورا مميزا في عملية تبادل الأسرى المغاربة وسواهم من المسلمين مقابل الكتب ذات أمس. أي غرام ذاك؟
في الطريق بدأت ملامح البلاط المهيب تتبدى في الأفق، كنت أشعر بخوف غريب أحاولت كتمه خجلًا أمام رفاق الرحلة، وفي محاولة للتماسك رحت أعد على أصابعي في صمت المعلومات التي أعرفها عن الاسكوريال، أحرك ما أذكره على يداي كطفل يراجع دروسه قبيل موعد الامتحان، أو ربما كنت صوفيا يحتمي من الخوف بالتسبيح! قررت بلحظة واحدة قطع سلوكي المريب هذا والاستسلام التام للحظة، لا يهم ما سأذكره دعك يا مُنى من كل هذا وانساقي مع تيار الدهشة.
في خدر تام لا أستطيع وصف مشاعري هناك، خاصة عند وصولي إلى مكتبة الاسكوريال. من سخرية القدر أن المكتبة التي أشرفت عليها محاكم التفتيش سيئة الصيت تمكنت من الحفاظ على كتب عربية محظورة لأمد بعيد! بذل فيليب الثاني دورا مهولا لتزويد المكتبة بالمخطوطات الثمينة وعلى كل ما قام به إلا أن له الفضل في تحقيق اعتراف العالم بقيمة المخطوطات العربية. إذا أصدر هذا الملك ذات أمس قرارا صارما لكل سفرائه ومعاونيه بجلب أندر المخطوطات بغرض إثراء المكتبة لتعليم النبلاء والقساوسة.
على أي حال لم أعلم لحظة دخولي إلى تلك القاعة أني على وشك اللقاء بالمكتبة الأجلّ، مررت بالعديد من البوابات يضاعف طولها طولي عشرات المرات، وقفت سريعا على التماثيل العملاقة التي استوحى بناءها من هيكل سليمان في رمزية بالغة، لا يسع المكان للكتابة عنهم هنا ما يهمني هو الحديث عن المكتبة. ها أنا ذا أجد نفسي فجأة في مدرسة للسحرة داخل فيلم «هاري بورتر» الشهير! توقفت عجلة الزمن وأنا محاطة بكون من الدهشة تحت سقف واحدة من أجمل وأعرق مكتبات العالم على الإطلاق. بل لعلها أهم المكتبات التاريخية في العالم لما حفظته من مخطوطات يونانية نادرة وأخرى عربية.
قاعة عظمى بأرضية من الرخام، رفوف خشبية منحوتة، جداريات مرسومة للإيطالي بيليغرينو تيبالدي على قبة المكتبة، الفنون السبعة الحرة مجسّدة بريشة أعظم فناني النهضة، الفلك والرياضيات والهندسة، المنطق والبلاغة والنحو والموسيقى.. كل ما حولك مشغول بريشة فاتنة لأسماء صاغت شكل الجدران والفنون لأمد طويل. تيتان، فاسكويز، هيرونيموس، روجير فان دير فايدن، وغيرهم.
تحيطك من اليمين والشمال عشرات الأدوات الحسابية البكر في كون العلوم، كواكب ومنحوتات ونماذج أرضية وأسطورلاب كبير وفهارس مخفية بين قضبان المكتبة.. تقترب من الجدران فتسألها عما حوت فتجيبك، هنا مخطوطة الغافقي بخط يده أول ما كُتب في طب العيون على الإطلاق، هنا «لباب المحصل المختصر عن الرازي» بخط يد صاحبه العلّامة ابن خلدون رحمه الله، هنا مصحف مولاي زيدان بخط كوفي مُذهّب على خلفية زرقاء، هنا قاموس الفيروز آبادي، هنا مؤلف المد والجزر لابن زيّات الإشبيلي، شرح المكودي لألفية ابن مالك، مؤلف ابن رشد مناهج الأدلة في عقائد الملة، كتاب الأمثلة لابن ظفر الصفدي برسوماته ومنمنماته السبع والأربعين، هنا كتاب منافع الحيوان، الكتاب البديع بألوانه لابن الدريهم، هنا كتاب التشريح الزهراوي والذي ظلّ أهم كتاب في علم الجراحة حتى القرن السابع عشر في جامعات أوروبا كلها.
هذا المكان على عتاقته ما هو إلا تاريخ حيّ ماثل يحفل بالقصص المحكية في كل أركانه، وتقديرا لعظمة المكتبة إياك ثم إياك أن تزرها دون القراءة عنها من قبل فهي دهشة للعارفين. وبالمناسبة المكتبة تعرف من يعرفها!
في بلاط الاسكوريال ستمر بسرداب متعرج طويل يقودك إلى مدافن ملكية يقشعر له البدن، ستجد قبور الملوك الإسبان جميعا مرصوصة فوق بعضها داخل غرفة سوداء مُذهّبة، لا يمكن وصف ما يعتريك لحظة التواجد في تلك الغرفة الملكية خاصة وأنت تعرف مسبقا ماذا فعل كل منهم لمحو الذاكرة الأندلسية وماذا فعلوا أيضًا لبناء مجدهم الخاص وهم أبناء السلالات الأوروبية الحاكمة، كثير من المشاعر المختلطة بين الإعجاب والغضب.
أنت إذا محاط بمدافن أهم رجالات الإمبراطورية العظمى، كلهم مدفونون هنا خلا إيزابيلا وفرناندو اللذان دفنا في غرناطة بمكان تحفل رموزه بكل صور التطرّف والعنصرية. حتى إن هناك قبران محجوزان باسم خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا الملوك الأم والأب لفيليب السادس ملك إسبانيا الحالي.
في الاسكوريال ستمر بكنيسة البلاط التي تحوي على أعظم أورغ للعزف على الإطلاق، مدرسة اللاهوت، والغرف الملكية التي تزينت بخرائط الكشوفات الجغرافية في كل مكان، هذا كله وأنت محاط بحدائق بهيجة على امتداد البصر، تسرح فيها الخيول الأصيلة والمواشي السمينة، وكأنك دخلت فجأة فوهة الزمن، المكان يبعد خمسين دقيقة عن مدريد، وزيارته فرض عين على كل مهتم بتاريخ إسبانيا.
عدت المساء أدراجي إلى الحيّ العربي في مدريد حيث اخترت الإقامة في غرفة متواضعة مع عائلة من البيرو، يبدو اسم الحي شهيًا لمن يبحث عن سيرة الأندلس، لا عروبة هنا يا سادة لا تدعوا العجلة تغتال شوقكم.. لا شيء من الأطلال سوى الاسم والاسم فقط. الليل الحالك حال بيني وبين تتبع الملامح المنسيّة، أنتظر الصباح على أحرّ من الجمر حتى أسير في كنف الحواري العتيقة بحثًا عن طيف أندلسيّ. سأنتظر شروق الشمس، شمس «مجريط»، لأكمل لكم الحكاية.